فصل: تفسير الآية رقم (11)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏4 - 5‏]‏

‏{‏وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَفِى الارض قِطَعٌ‏}‏ جملة مستأنفة مشتملة على طائفة أخرى من الآيات أي في الأرض بقاع كثيرة مختلفة في الأوصاف فمن طيبة منبتة ومن سبخة لا تنبت ومن رخوة ومن صلبة ومن صالحة للزرع لا للشجر ومن صالحة للشجرء لا للزرع إلى غير ذلك ‏{‏متجاورات‏}‏ أي متلاصقة والمقصود الأخبار بتفاوت أجزاء الأرض المتلاصقة على الوجه الذي علمت وهذا هو المأثور عن الأكثرين، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أن المعنى وفي الأرض قرى قريب بعضها من بعض، وأخرج عن الحسن انه فسر ذلك بالاهواز‏.‏ وفارس‏.‏ والكوفة‏.‏ والبصرة، ومن هنا قيل في الآية اكتفاء على حد ‏{‏سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏ والمراد قطع متجاورات وغير متجاورات، وفي بعض المصاحف ‏{‏قِطَعٌ متجاورات‏}‏ بالنصب أي وجعل في الأرض قطعاً ‏{‏وجنات‏}‏ أي بساتين كثيرة ‏{‏مّنْ أعناب‏}‏ أي من أشجار الكرم ‏{‏وَزَرْعٌ‏}‏ من كل نوع من أنواع الحبوب، وافراده لمراعاة أصله حيث كان مصدراً، ولعل تقديم ذكر الجنات عليه مع كونه عمود المعاش لما أن في صنعة الأعناب مما يبهر العقول ما لا يخفى، ولو لم يكن فيها إلا أنها مياه متجمدة في ظروف رقيقة حتى أن منها شفافاً لا يحجب البصر عن إدراك ما في جوفه لكفي؛ ومن هنا جاء في بعض الأخبار القدسية أتكفرون بي وأنا خالق العنب‏.‏ وفي إرشاد العقل السليم تعليل ذلك بظهور حال الجنن في اختلافها ومباينتها لسائرها ورسوخ ذلك فيها، وتأخير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَخِيلٌ‏}‏ لئلا يقع بينها وبين صفتها وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صنوان وَنَخِيلٌ صنوان‏}‏ فاصلة أو يطول الفصل بين المتعاطفين، وصنوان جمع صنو وهو الفرع الذي يجمعه وآخر أصل واحد وأصله المثل، ومنه قيل‏:‏ للعم صنو، وكثر الصاد في الجمع كالمفرد هو اللغة المشهورة وبها قرأ الجمهور، ولغة تميم وقيس ‏{‏صنوان‏}‏ بالضم كذئب وذؤبان وبذلك قرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما‏.‏ والسلمى‏.‏ وابن مصرف، ونقله الجعبري في شرح الشاطبية عن حفص‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وقتادة بالفتح، وهو على ذلك اسم جمع كالسعدان لا جمع تكسير لأنه ليس من أبنيته، وقرأ الحسن ‏{‏جنات‏}‏ بالنصب عطفاً عند بعض على ‏{‏زَوْجَيْنِ‏}‏ مفعول ‏{‏جَعَلَ‏}‏ و‏{‏وَمِن كُلّ الثمرات‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 3‏]‏ حينئذ حال مقدمة لا صلة ‏{‏جَعَلَ‏}‏ لفساد المعنى عليه أي جعل فيها زوجين حال كونه من كل الثمرات وجنات من أعناب، ولا يجب هنا تقييد العطوف بقيد المعطوف عليه‏.‏

وزعم بعضهم أن العطف على ‏{‏رَوَاسِىَ‏}‏ وقال أبو حيان‏:‏ الأولى اضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين أو بالجر عطفاً على ‏{‏كُلّ الثمرات‏}‏ على أن يكون هو مفعولاً بزيادة ‏{‏مِنْ‏}‏ في الإثبات و‏{‏زَوْجَيْنِ اثنين‏}‏ حالا منه، والتقدير وجعل فيها من كل الثمرات حال كونها صنفين، فلعل عدم نظم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الارض قِطَعٌ متجاورات‏}‏ في هذا السلك من أن اختصاص كل من تلك القطع بما لها من الأحوال والصفات بمحض خلق الخالق الحكيم جلت قدرته حين مد الأرض ودحاها على ما قيل الإيماء إلى كون تلك الأحوال صفات راسخة لتلك القطع‏.‏

وقرأ جمع من السبعة ‏{‏وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ‏}‏ بالجر على أن العطف على ‏{‏أعناب‏}‏ وهو كما في الكشف من باب متقلداً سيفاً ورمحاً أو المراد أن في الجنات فرجاً مزروعة بين الأشجار وإلا فلا يقال للمزرعة وحدها جنة وهذا أحسن منظراً وأنزه‏.‏ وادعى أبو حيان أن في جعل الجنة من الأعناب تجوزاً لأن الجنة في الحقيقة هي الأرض التي فيها الأعناب ‏{‏يسقى‏}‏ أي ما ذكر من القطع والجنات والزرع والنخيل وقرأ أكثر السبعة بالتأنيث مراعاة للفظ؛ وهي قراءة الحسن‏.‏ وأبي جعفر، قيل‏:‏ والأول أوفق بمقام بيان اتحاد الكل في حالة السقي ‏{‏بِمَاء واحد‏}‏ لا اختلاف في طبعه سواء كان السقي من ماء‏:‏ الأمطار أو من ماء الأنهار، وقيل‏:‏ إن الثاني أوفق بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَنُفَضّلُ‏}‏ أي مع وجود أسباب التشابه بمحض قدرتنا وإحساننا ‏{‏بَعْضَهَا على بَعْضٍ‏}‏ آخر منها ‏{‏فِى الاكل‏}‏ لمكان التأنيث، وأمال فتحة القاف حمزة، والكسائي، والأكل بضم الهمزة والكاف وجاء تسكينها ما يؤكل، وهو هنا الثمر والحب، وقول بعضهم‏:‏ أي في الثمر شكلاً وقدراً ورائحة وطعماً من باب التغليب، وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏يفضل‏}‏ بالياء على بناء الفاعل رداً على ‏{‏وَمَن يُدَبّرُ‏}‏ و‏{‏بفصل‏}‏ و‏{‏إِذْ يغشى‏}‏ وقرأ يحيى بن يعمر وهو أول من نقط المصحف‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ والحلبى عن عبد الوارث بالياء على بناء المفعول ورفع ‏{‏بَعْضَهَا‏}‏ وفيه ما لا يخفى من الفخامة والدلالة على أن عدم احتمال استناد الفعل إلى فاعل آخر معن عن بناء الفعل للفاعل ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ الذي فصل من أحوال القطع وغيرها ‏{‏لايات‏}‏ كثيرة عظيمة باهرة ‏{‏لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ يعملون على قضية عقولهم فإن من عقل هاتيك الأحوال العجيبة وخروج الثمار المختلفة في الأشكال والألوان والطعوم والروائح في تلك القطع المتباينة المتلاصقة مع اتحاد ما تسقى به بل وسائر أسباب نموها لا يتلعثم في الجزم بأن لذلك صانعاً حكيماً قادراً مدبراً لها لا يعجزه شيء، وقيل‏:‏ المراد أن من عقل ذلك لا يتوقف في الجزم بأن من قدر على إبداع ما ذكر قادر على إعادة ما أبداه بل هي أهون في القياس ولعل ما ذكرناه أولى‏.‏ ثم إنالأحوال وإن كانت هي الآيات أنفسها لا أنها فيها إلا أنها قد جردت عنها أمثالها مبالغة في كونه آية ففي تجريدية مثلها في قوله تعالى‏:‏

‏{‏لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 28‏]‏ على المشهور‏.‏ وجوز أن يكون المشار إليه الأحوال الكلية، والآيات افرادها الحادثة شيئاً فشيئاً في الأزمنة وآحادها الواقعة في الأقطار والأمكنة المشاهدة لأهلها ففي على معناها؛ ومنهم من فسر الآيات بالدلالات لتبقى في على ذلك وهو كما ترى، وحيث كانت دلالة هذه الأحوال على مدلولاتها أظهر مما سبق علق سبحانه كونها آيات بمحض التعقل كما قال أبو حيان وغيره، ولذلك على ما قيل لم يتعرض جل شأنه أنه لغير تفضيل بعضها على بعض في الأكل الظاهر لكل عاقل مع تحقق ذلك في الخواص والكيفيات مما يتوقف العثور عليه على نوع تأمل وتفكر كأنه لا حاجة إلى التفكر في ذلك أيضاً، وفيه تعريض بأن المشركين غير عاقلين، ولبعض الرجاز فيما تشير إليه الآية‏:‏

والأرض فيها عبرة للمعتبر *** تخبر عن صنع مليك مقتدر

تسقى بماء واحد أشجارها *** وبقعة واحدة قرارها

والشمس والهواء ليس يختلف *** وأكلها مختلف لا يأتلف

لو أن ذا من عمل الطبائع *** أو أنه صنعة غير صانع

لم يختلف وكان شيئاً واحدا *** هل يشبه الأولاد إلا الوالدا

الشمس والهواء يا معاند *** والماء والتراب شيء واحد

فما الذي أوجب ذا التفاضلا *** الا حيكم لم يرده باطل

وأخرج ابن جرير عن الحسن في هذه الآية أنه قال‏:‏ هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فسطحها وبطحها فصارت قطعاً متجاورة فينزل عليها الماء من السماء فتخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها وتخرج نباتها وتخرج هذه سبخها وملحها وخبثها وكلتاههما تسقى بماء واحد فلو كان الماء ملحاً قيل إنما استبسخت هذه من قبل الماء، كذلك الناس خلقوا من آدم عليه السلام فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب فتخشع وتخضع، وتقسو قلوب فتلهو وتسهو، ثم قال‏:‏ والله ما جالس القرآن أحد الاقام من عنده بزيادة أو نقصان قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏ اه قال أبو حيان وهو شبيه بكلام الصوفية‏.‏

‏{‏وَإِن تَعْجَبْ‏}‏ أي إن يقع منك عجب يا محمد ‏{‏فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ‏}‏ بعد مشاهدة الآيات الدالة على عظيم قدرته تعالى أي فليكن عجبك من قولهم‏:‏ ‏{‏أَءذَا كُنَّا تُرَابًا‏}‏ إلى آخره فإنه الذي ينبغى أن يتعجب منه، ورفع ‏{‏عجب‏}‏ على أنه خبر مقدم و‏{‏فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ‏}‏ مبتدأ مؤخر، وقدم الخبر للقصر والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم أمراً عجيباً، وفي البحر أنه لا بد من تقدير صفة لعجب لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فيقدر والله تعالى أعلم فعجب أي عجب أو فعجب غريب، وإذا قدرناه موصوفاً جاز أن يعرب مبتدأ للمسوغ وهو الوصف ولا يضركون الخبر معرفة، وذلك كاما قال سيبويه في كم مالك إن كم مبتدأ لوجود المسوغ فيه وهو الاستفهام، وفي نحو اقصد رجلاً خير منه أبوه إن خير مبتدأ للمسوغ أيضاً وهو العمل، ونقل أبو البقاء القول بأن ‏{‏عجب‏}‏ بمعنى معجب ثم قال‏:‏ فعلى هذا يجوز أن يرتفع ‏{‏فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ‏}‏ به‏.‏

وتعقب بأنه لا يجوز ذلك لأنه لا يلزم من كون شيء بمعنى شيء أن يكون حكمه في العمل حكمه فمعجب يعمل و‏{‏عجب‏}‏ لا يعمل، ألا ترى أن فعلا كذبح وفعلة كقبض وفعلة كغرفة بمعنى مفعول ولا يعمل عمله فلا تقول مررت برجل ذبح كبشه أو قبض ماله أو غرفة ماؤه، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ما له ومغروف ماؤه وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا العمل عن المفعول، وحصر النحويون ما يرفع الفاعل في أشياء ولم يعدوا المصدر إذا كان بمعنى اسم الفاعل منها‏.‏

والظاهر أن ‏{‏أَن كُنَّا‏}‏ إلى آخره في محل نصب مقول لقول محكى به، والاستفهام إنكاري مفيد لكمال الاستبعاد والاستنكار، وجوز أن يكون في محل رفع على البدلية من ‏{‏قَوْلُهُمْ‏}‏ على أنه بمعنى المقول وهو على ما قال أبو حيان‏:‏ أعراب متكلف وعدول عن الظاهر، وعليه فالعجب تكلمهم بذلك وعلى الأول كلامهم ذلك، والعامل في ‏{‏إِذَا‏}‏ ما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ وهو نبعث أو نعاد، والجديد ضد الخلق والبالي، ويقال‏:‏ ثوب جديد أي كما فرغ من عمله وهو فعيل بمعنى مفعول كأنه قطع من نسجه، وتقديم الظرف لتقوية الإنكار بالبعص بتوجيهه إليه في حالة منافية له، وتكرير الهمزة في ‏{‏أئنا‏}‏ لتأكيد الإنكار، وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في الخلق الجديد بالفخل عند كونهم تراباً بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له، وفيه من الدلالة على عتوهم وتماديهم في النكير ما لا يخفى‏.‏ قال أبو البقاء‏:‏ ولا يجوز أن تنتصب ‏{‏قَبْلِكُمْ إِذَا‏}‏ بكنا لأنها مضافة إليها ولا بجديد لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها وكذا الاستفهام‏.‏ ورد الأول في المغنى بأن ‏{‏إِذَا‏}‏ عند من يقول بأن العامل فيها شرطها وهو المشهور غير مضافة كما يقوله الجميع إذا جزمت كما في قوله‏:‏

وإذا تصبك خاصة فتحمل *** قيل‏:‏ فالوجه في رد ذلك أن عمله فيها موقوف على تعيين مدلولها وتعيينه ليس إلا بشرطها فيدور، ونظر فيه الشهاب بأنها عندهم بمنزلة متى وأيان غير معينة بل مبهمة كما ذكره القائلون به وبه صرح في المغنى أيضاً‏.‏

وقيل‏:‏ معنى الآية إن تعجب يا محمد من قولهم في إنكار البعث فقولهم عجيب حقيقق أن يتعجب منه‏.‏

وتعقبه في «البحر» بأنه ليس مدلول اللفظ لأنه جعل فيه متعلق عجبه صلى الله عليه وسلم هو قولهم في إنكار البعث وجواب الشرط هو ذلك القول فيتحد الشرط والجزاء إذا تقديره إن تعجب من إنكارهم البعث فأعجب من قولهم في إنكار البعث وهو غير صحيح‏.‏ ورد بأن ذلك مما اتحد فيه الشرط والجزاء صورة وتغايراً حقيقة كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من كانت هجرته إلى الله تعالى ورسوله فهجرته إلى الله تعالى ورسوله ‏"‏ وقولهم‏:‏ من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى وهو أبلغ في الكلام لأن معناه أنه أمر لا يكتنه كنهه ولا تدرك حقيقته وأنه أمر عظيم‏.‏

وذهب بعض إلى أن الخطاب في ‏{‏ءانٍ تَعْجَبْ‏}‏ عام، والمعنى إن تعجب يا من نظر ما في هذه الآيات وعلم قدرة من هذه أفعاله فازدد تعجباً ممن ينكر مع هذا قدرته على البعث وهو أهون شيء عليه، وقيل‏:‏ المعنى إن تجدد منك التعجب لإنكارهم البعث فاستمر عليه فإن إنكارهم ذلك من الأعاجيب، وقيل‏:‏ المراد إن كنت تريد أيها المريد عجباً فهلم فإن من أعجب العجب إنكارهم البعث، واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعاً هذا‏.‏ وفي المؤمنين‏.‏ والعنكبوت‏.‏ والنمل‏.‏ والسجدة والواقعة‏.‏ والنازعات‏.‏ وبني إسرائيل في موضعين وكذا في الصافات، فقرأ نافع‏.‏ والكسائي بجعل الأول استفهاماً والثاني خبراً إلا في العنكبوت والنمل فعكس نافع وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت وأما في النمل فعلى أصله إلا أنه زاد نوناً‏.‏

وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبراً والثاني استفهاماً إلا في النمل والنازعات فعكس وزاد في النمل نوناً كالكسائي وإلا في الواقعة فقرأ باستفهامين وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب إلا ابن كثير وحفصاً فإنهما قرآ في العنكبوت بالخبر في الأول والاستفهام في الثاني وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين ‏{‏أولئك‏}‏ مبتدأ والموصول خبره أي أولئك المنكرون للبعث ريثما عاينوا من آيات ربهم الكبرى ما يرشدهم إلى الإيمان لو كانوا يبصرون ‏{‏الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ‏}‏ وتمادوا في ذلك فإن إنكار قدرته عز وجل إنكار له سبحانه لأن الإله لا يكون عاجزاً مع ما في ذلك من تكذيبه جل شأنه وتكذيب رساله المتفقون عليه عليهم السلام ‏{‏وَأُوْلئِكَ‏}‏ مبتدأ خبره جملة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الاغلال فِى أعناقهم‏}‏ وفيه احتمالان‏:‏ الأول أن يكون المراد وصفهم بذلك في الدنيا فهو تشبيه وتمثيل لحالهم في امتناعهم عن الإيمان وعدم الالتفات إلى الحق بحال طائفة في أعناقهم أغلال وقيود لا يمكنهم الالتفات معها كقوله‏:‏

كيف الرشاد وقد خلفت في نفر *** لهم عن الرشد أغلال وأقياد

كأنه قيل‏:‏ أولئك مقيدون بقيود الضلالة لا يرجى خلاصهم‏.‏ الثاني أن يكون المراد وصفهم به في الآخرة والكلام إما باق على حقيقته كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِذِ الاغلال فِى أعناقهم والسلاسل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 71‏]‏ وروي ذلك عن الحسن قال‏:‏ إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار لأنهم أعجزوا الرب سبحانه ولكنما جعلت في أعناقهم لكي إذا طغا بهم اللهب أرستهم في النار، وأما مخرج مخرج التشبيه لحالهم بحال من يقدم للسياسة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد من الإغلال أعمالهم الفاسدة التي تقلدوها كالأغلال، وهو جار على احتمال أن يكون ذلك في الدنيا أو في الآخرة والأول ناظر إلى ما قبل والثاني إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُوْلئِكَ‏}‏ أي الموصوفون بما ذكر ‏{‏أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ لا ينفكون عنها، قيل‏:‏ وتوسيط الفصل ليس لتخصيص الخلود بمنكري البعص خاصة بل بالجميع المدلول عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ‏}‏‏.‏

وأورد على ذلك أن ‏{‏هُمْ‏}‏ ليس ضمير فصل لأن شرطه أن يقع بين مبتدأ وخبر يكون اسماً معرفة أو مثل المعرفة في أنه لا يقبل حرف التعريف كأفعل التفضيل وهذا ليس كذلك، وأجيب بأن المراد بالفصل الضمير المنفصل وأنه أتى به وجعل الخبر جملة مع أن الأصل فيه الإفراد لقصد الحصر والتخصيص المذكور كما في هو عارف‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لعل القائل بما ذكر لا يتبع النحاة في الاشتراط المذكور كما أن الجرجاني والسهيلي جوزا ذلك إذا كان الخبر مضارعاً واسم الفاعل مثله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة‏}‏ بالعقوبة التي هددوا بها على الإصرار على الكفر استهزاءً وتكذيباً ‏{‏قَبْلَ الحسنة‏}‏ أي العافية والسلامة منها، والمراد بكونها قبلها أن سؤالها قبل سؤالها أو أن سؤالها قبل انقضاء الزمان المقدر لها، وأخرج ابن جرير‏.‏ وغيره عن قتادة أنه قال في الآية‏:‏ هؤلاء مشركو العرب استعجلوا بالشر قبل الخير فقالوا‏:‏ ‏{‏اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات‏}‏ جمع مثلة كسمرة وسمرات وهي العقوبة الفاضحة، وفسرها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالعقوبة المستأصلة للعضو كقطع الأذن ونحوه سميت بها لما بين العقاب والمعاقب به من المماثلة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ أو هي مأخوذة من المثال بمعنى القصاص يقال‏:‏ أمثلت الرجل من صاحبه وأقصصته بمعنى واحد أو هي من المثل المضروب لعظمها‏.‏

والجملة في موضع الحال لبيان ركاكة رأيهم في الاستعجال بطريق الاستهزاء أي يستعجلونك بذلك مستهزئين بإنذارك منكرين لوقوع ما أنذرتهم إياه والحال أنه قد مضت العقوبات الفاضحة النازلة على أمثالهم من المكذبين المستهزئين‏.‏ وقرأ مجاهد‏.‏ والأعمش ‏{‏المثلات‏}‏ بفتح الميم والثاء، وعيسى بن عمرو في رواية الأعمش؛ وأبو بكر بضمهما وهو لغة أصلية، ويحتمل أنه اتبع فيه العين للفاء، وابن وثاب بضم الميم وسكون الثاء وهي لغة تميم، وابن مصرف بفتح الميم وسكون الثاء وهي لغة الحجازيين ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ‏}‏ عظيمة ‏{‏لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ‏}‏ أنفسهم بالذنوب والمعاصي، والجار والمجرور في موضع الحال من الناس والعامل فيها هو العامل في صاحبها وهو ‏{‏مَغْفِرَةٍ‏}‏ أي أنه تعالى لغفور للناس مع كونهم ظالمين‏:‏ قيل‏:‏ وهذه الآية ظاهرة في مذهب أهل السنة وهو جواز مغفرة الكبائر والصغائر بدون توبة لأنه سبحانه ذكر المغفرة مع الظلم أي الذنب ولا يكون معه إلا قبل التوبة لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وأول ذلك المعتزلة بأن المراد مغفرة الصغائر لمجتنب الكبائر أو مغفرتها لمن تاب أو المراد بالمغفرة معناها اللغوي وهو الستر بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة كأنه قيل‏:‏ إنه تعالى لا يعجل للناس العقوبة وإن كانوا ظالمين بل يستر عليهم بتأخيرها‏.‏ واعترض التأويل بالتخصيص بأنه تخصيص للعامل من غير دليل‏.‏ وأجيب بأن الكفر قد خص بالإجماع فيسري التخصيص إلى ذلك‏.‏ وتعقب الأخير بأنه في غاية البعد لأنه كما قال الإمام لا يسمى مثله مغفرة وإلا لصح أن يقال‏:‏ الكفار مغفورون‏.‏ ورد بأن المغفرة حقيقتها في اللغة الستر وكونهم مغفورين بمعنى مؤخر عذابهم إلى الآخرة لا محذور فيه وهو المناسب لاستعجالهم العذاب‏.‏

وأجيب بأن المراد أن ذلك مخالف للظاهر والاستعمال القرآن، وذكر العلامة الطيبي أنه يجب تأويل الآية بأحد الأوجه الثلاثة لأنها بظاهرها كالحث على الظلم لأنه سبحانه وعد المغفرة البالغة مع وجود الظلم‏.‏ وتعقب ذلك في «الكشف» فقال‏:‏ فيه نظر لأن الأسلوب يدل على أنه تعالى بليغ المغفرة لهم مع استحقاقهم لخلافها لتلبسهم بما العقاب أولى بهم عنده، والظاهر أن التأويل بتاء على مذهب الاعتزال‏.‏ وأما على مذهب أهل السنة فإنما يؤول لو عم الظلم الكفر، ثم قال‏:‏ والتأويل بالستر والإمهال أحسن فيكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب‏}‏ لتحقيق الوعيد بهم وإن كانوا تحت ستره وإمهاله، ففيه إشارة إلى أن ذلك إمهال لا إهمال‏.‏ والمراد بالناس أما المعهودون وهم المستعجلون المذكورون قبل أو الجنس دلالة على كثرة الهالكين لتناولهم وأضرابهم وهذا جار على المذهبين، وكذا اختار الطيبي هذا التأويل وقال هو الوجه‏.‏ والآية على وزان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنزَلَهُ الذى يَعْلَمُ السر فِى السموات والارض *إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 6‏]‏ على ما ذكره الزمخشري في تفسيره وأنت قد سمعت ما له وما عليه فتدبر‏.‏ واختار غير واحد إرادة الجنس من الناس وهو مراد أيضاً في ‏{‏شَدِيدُ العقاب‏}‏‏.‏

والتخصيص بالكفار غير مختار‏.‏ ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ‏}‏ الخ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لولا عفو الله تعالى وتجاوزه ما هنأ أحد العيش ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ وهم المستعجلون كما روي عن قتادة، وكأنه إنما عبر عنهم بذلك نعياً عليهم كفرهم بآيات الله تعالى التي تخر لها صم الجبال حيث لم يرفعوا لها رأساً ولم يعدوها من جنس الآيات وقالوا‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ‏}‏ مثل آيات موسى وعيسى عليهما السلام من قلب العصا حية وإحياء الموتى عناداً أو مكابرة وإلا ففي أدنى آية أنزلت عليه عليه الصلاة والسلام غنية وعبرة لأولي الألباب، والتعبير بالمضارع استحضاراً للحال الماضية، وجوز أن يكون إشارة إلى أن ذلك القول ديدنهم، وتنوين ‏{‏ءايَةً‏}‏ للتعظيم وجوز أن يكون للوحدة‏.‏

‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ‏}‏ مرسل للإنذار من سوء عاقبة ما نهى الله تعالى عنه كدأب من قبلك من الرسل وليس عليك إلا الإتيان بما يعلم به نبوتك وقد حصل بما لا مزيد عليه ولا حاجة إلى إلزامهم والقامهم الحجر بالإتيان بما اقترحوه ‏{‏وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏ أي نبي داع إلى الحق مرشد إليه بآية تليق به وبزمانه، والتنكير للإبهام وروي هذا عن قتادة أيضاً‏.‏ ومجاهد

‏[‏بم وعليه فقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى‏}‏ استئناف جواباً عن سؤال من يقول‏:‏ لماذا لم يجابوا إلى المقترح فتنقطع حجتهم ولعلهم يهتدون‏؟‏ بأن ذلك أمر مدبر ببالغ العلم ونافذ القدرة لا عن الجزاف واتباع آرائهم السخاف، وجوز أن يراد بالهادي هو الله تعالى وروي ذلك عن ابن عباس‏.‏ والضحاك‏.‏ وابن جبير، فالتنوين فيه للتفخيم والتعظيم، وتوجيه الآية على ذلك أنهم لما أنكروا الآيات عناداً لكفرهم الناشىء عن التقليد ولم يتدبروا الآيات قبل‏:‏ إنما أنت منذر لا هاد مثبت للإيمان في صدورهم صاد لهم عن جحودهم فإن ذلك إلى الله تعالى وحده وهو سبحانه القادر عليه، وعلى هذا بيل‏:‏ يجوز أن يكون قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هو الله ويكون ذلك تفسيراً لهاد و‏{‏يَعْلَمْ‏}‏ جملة مقررة لاستقلاله تعالى بالهداية كالعلة لذلك، ويجوز أن يكون جملة ‏{‏الله يَعْلَمُ‏}‏ مقررة ويكون من باب إقامة الظاهر مقام المضمر كأنه هو تعالى يعلم أي ذلك الهادي، والأول بعيد جداً‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن جرير عن عكرمة‏.‏ وأبي الضحى أن المنذر والهادي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجه ذلك بأن ‏{‏هَادٍ‏}‏ عطف على ‏{‏مُنذِرُ‏}‏ و‏{‏لِكُلّ قَوْمٌ‏}‏ متعلق به قدم عليه للفاصلة‏.‏ وفي ذلك دليل على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وشمول دعوته، وفيه الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجار والمجرور والنحويون في جوازه مختلفون، وقد يجعل ‏{‏هَادٍ‏}‏ خبر مبتدأ مقدر أي وهو هاد أو وأنت هاد، وعلى الأول فيه التفات، وقال أبو العالية‏:‏ الهادي العمل، وقال علي بن عيسى‏:‏ هو السابق إلى الهدى ولكل قوم سابق سبقهم إلى الهدى‏.‏ قال أبو حيان‏:‏ وهذا يرجع إلى أن الهادي هو النبي لأنه الذي يسبق إلى ذلك وعن أبي صالح أنه القائد إلى الخير أو إلى الشر والكل كما ترى‏.‏ وقالت الشيعة‏:‏ إنه علي كرم الله تعالى وجهه ورووا في ذلك أخباراً، وذكر ذلك القشيري منا‏.‏ وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والديلمي‏.‏ وابن عساكر عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 7‏]‏ الآية وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال‏:‏ أنا المنذر وأومأ بيده إلى منكب علي كرم الله تعالى وجهه فقال‏:‏ أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي‏.‏ وأخرج عبد الله بن أحمد في «زوائد المسند»‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والطبراني في الأوسط‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وابن عساكر أيضاً عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر وأنا الهادي، وفي لفظ الهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه‏.‏

واستدل بذلك الشيعة على خلافة علي كرم الله تعالى وجهه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا فصل‏.‏ وأجيب بأنا لا نسلم صحة الخبر، وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار عند أهل الأثر، وليس في الآية دلالة على ما تضمنه بوجه من الوجوه، على أن قصارى ما فيه كونه كرم الله تعالى وجهه به يهتدي المهتدون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لا يستدعي إلا إثبات مرتبة الإرشاد وهو أمر والخلافة التي نقول بها أمر لا تلازم بينهما عندنا‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن صح الخبر يلزم القول بصحة خلافة الثلاثة رضي الله تعالى عنهم حيث دل على أنه كرم الله تعالى وجهه على الحق فيما يأتي ويذر وأنه الذي يهتدي به وهو قد بايع أولئك الخلفاء طوعاً ومدحهم وأثنى عليهم خيراً ولم يطعن في خلافتهم فينبغي الاقتداء به والجري على سننه في ذلك ودون ءثبات خلاف ما أظهر خرط القتاد‏.‏ وقال أبو حيان‏:‏ إنه صلى الله عليه وسلم على فرض صحة الرواية إنما جعل علياً كرم الله تعالى وجهه مثالاً من علماء الأمة وهداتها إلى الدين فكأنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ يا علي هذا وصفك فيدخل الخلفاء الثلاث وسائر علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم بل وسائر علماء الأمة، وعليه فيكون معنى الآية إنما أنت منذر ولكل قوم في القديم والحديث إلى ما شاء الله تعالى هداة دعاة إلى الخير اه وظاهره أنه لم يحمل تقديم المعمول في خبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على الحصر الحقيقي وحينئذٍ لا مانع من القول بكثرة من يهتدي به، ويؤيد عدم الحصر ما جاء عندنا من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وأخبار أخر متضمنة لإثبات من يهتدي به غير علي كرم الله تعالى وجهه، وأنا أظنك لا تلتفت إلى التأويل ولا تعبأ بما قيل وتكتفي بمنع صحة الخبر وتقول ليس في الآية مما يدل عليه عين ولا أثر هذا، و‏{‏مَا‏}‏ يحتمل أن تكون مصدرية أي يعلم حمل كل أنثى من أي الإناث كانت، والحمل على هذا بمعنى المحمول، وأن تكون موصولة والعائد محذوف أي الذي تحمله في بطنها من حين العلوق إلى زمن الولادة لا بعد تكامل الخلق فقط، وجوز أن تكون نكرة موصوفة و‏{‏يَعْلَمْ‏}‏ قيل متعدية إلى واحد فهي عرفانية، ونظر فيه بأن المعرفة لا يصح استعمالها في علم الله تعالى وهو ناشىء من عدم المعرفة بتحقيق ذلك وقد تقدم، وجوز أن تكون استفهامية معلقة ليعلم وهي مبتدأ أو مفعول مقدم والجملة سادة مسد المفعولين، أي يعلم أي شيء تحمل وعلى أي حال هو من الأحوال المتواردة عليه طوراً فطوراً، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر المتبادر، وكما جوز في ‏{‏مَا‏}‏ هذه الأوجه جوزت في ما بعدها أيضاً، ووجه مناسبة الآية لما قبلها قد علم مما سبق، وقيل‏:‏ وجهها أنه لما تقدم إنكارهم البعث وكان من شبههم تفرق الأجزاء واختلاط بعضها ببعض بحيث لا يتهيأ الامتياز بينها نبه سبحانه بهذه الآية على إحاطة علمه جل شأنه إزاحة لشبهتهم؛ وقيل‏:‏ وجهها أنهم لما استعجلوا بالسيئة نبه عز وجل على إحاطة علمه تعالى ليفيد أنه جلت حكمته إنما ينزل العذاب حسبما يعلم من المصلحة والحكمة، وفي مصحف أبي ومر ما قيل في نظيره ‏{‏مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى وَمَا تَضَعُ‏}‏ ‏{‏وَمَا تَغِيضُ الارحام وَمَا تَزْدَادُ‏}‏ أي ما تنقصه وما تزداده في الجثة كالخديج والتام وروي ذلك عن ابن عباس، وفي المدة كالمولود في أقل مدة الحمل والمولود في أكثرها وفيما بينهما وهو رواية أخرى عن الحبر، قيل‏:‏ إن الضحاك ولد لسنتين، وإن هرم بن حيان لأربع ومن ذلك سمي هرماً، وإلى كون أقصى مدة الحمل أربع سنين ذهب الشافعي، وعند مالك أقصاها خمس، وعند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أقصاها سنتان وهو المروى عن عائشة رضي الله تعالى عنها، فقد أخرج ابن جرير عنها لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما تتحرك فلكة مغزل، وفي العدد كالواحد فما فوق، قيل‏:‏ ونهاية ما عرف أربعة فإنه يروى أن شريك بن عبد الله ابن أبي نمير القرشي كان رابع أربعة وهو الذي وقف عليه إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه، وقال الشافعي عليه الرحمة‏:‏ أخبرني شيخ باليمن أن امرأته ولدت بطوناً في كل بطن خمسة وهذا من النوادر، وقد اتفق مثله لكن ما زاد على اثنين لضعفه لا يعيش إلا نادراً‏.‏

وما يحكى أنه ولد لبعضهم أربعون في بطن واحدة كل منهم مثل الإصبع وأنهم عاشوا كلهم فالظاهر أنه كذب، وقيل‏:‏ المراد نقصان دم الحيض وازدياده وروي ذلك عن جماعة، وفيه جعل الدم في الرحم كالماء في الأرض يغيض تارة ويظهر أخرى، وغاض جاء متعدياً ولازماً كنقص وكذا ازداد وهو مما اتفق عليه أهل اللغة، فإن جعلتهما لازمين لا يجوز أن تكون ‏{‏مَا‏}‏ موصولة أو موصوفة لعدم العائد، وإسناد الفعلين كيفما كانا إلى الأرحام فإنهما على اللزوم لما فيها وعلى التعدي لله جل شأنه وعظم سلطانه ‏{‏وَكُلَّ شىْء‏}‏ من الأشياء ‏{‏عِندَهُ‏}‏ سبحانه ‏{‏بِمِقْدَارٍ‏}‏ بقدر لا يجاوزه ولا ينقص عنه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 49‏]‏ فإن كل حادث من الاعراض والجواهر له في كل مرتبة من مراتب التكوين ومباديها وقت معين وحال مخصوص لا يكاد يجاوزه ولعل حال المعدوم معلوم بالدلالة إذا قلنا‏:‏ إن الشيء هو الموجود و‏{‏عِندَ‏}‏ ظرف متعلق بمحذوف وقع صفة لشيء أو لكل و‏{‏بِمِقْدَارٍ‏}‏ خبر ‏{‏كُلٌّ‏}‏ وجوز أن يكون الظرف متعلقاً بمحذوف وقع حالاً من مقدار وهو في الأصل صفة له لكنه لما قدم أعرب حالاً وفاءً بالقاعدة؛ وأن يكون ظرفاً لما يتعلق به الجار، والمراد بالعندية الحضور العلمي بل العلم الحضوري على ما قيل، فإن تحقق الأشياء في أنفسها في أي مرتبة كانت من مراتب الوجود والاستعداد لذلك علم بالنسبة إليه تعالى، وقيل‏:‏ معنى عنده في حكمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏عالم الغيب‏}‏ أي الغائب عن الحس ‏{‏والشهادة‏}‏ أي الحاضر له عبر عنهما بهما مبالغة‏.‏

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الغيب السر والشهادة العلانية، وقيل‏:‏ الأول المعدوم والثاني الموجود ونقل عن بعضهم أنه قال‏:‏ إنه سبحانه لا يعلم الغيب على معنى أن لا غيب بالنسبة إليه جل شأنه والمعدومات مشهودة له تعالى بناءً على القول برؤية المعدوم كما برهن عليه الكوراني في رسالة ألفها لذلك، ولا يخفى ما في ذلك من مزيد الجسارة على الله تعالى والمصادمة لقوله جل شأنه‏:‏ ‏{‏عالم الغيب‏}‏ ولا ينبغي لمسلم أن يتفوه بمثل هذه الكلمة التي تقشعر من سماعها أبدان المؤمنين نسأل الله تعالى أن يوفقنا للوقوف عند حدنا ويمن علينا بحسن الأدب معه سبحانه، ورفع ‏{‏عالم‏}‏ على أنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر بعد خبر‏.‏ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏عالم‏}‏ بالنصب على المدح، وهذا الكلام كالدليل على ما قبله من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يَعْلَمُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 8‏]‏ الخ‏.‏

‏{‏الكبير‏}‏ العظيم الشأن الذي كل شيء دونه ‏{‏المتعال‏}‏ المستعلي على كل شيء في ذاته وعلمه وسائر صفاته سبحانه، وجوز أن يكون المعنى الكبير الذي يجل عما نعته به الخلق من صفات المخلوقين ويتعالى عنه، فعلى الأول المراد تنزيهه سبحانه في ذاته وصفاته عن مداناة شيء منه؛ وعلى هذا المراد تنزيهه تعالى عما وصفه الكفرة به فهو رد لهم كقوله جل شأنه‏:‏ ‏{‏سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 159‏]‏ قال العلامة الطيبي‏:‏ إن معنى ‏{‏الكبير المتعال‏}‏ بالنسبة إلى مردوفه وهو ‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ هو العظيم الشأن الذي يكبر عن صفات المخلوقين ليضم مع العلم العظمة والقدرة بالنظر إلى ما سبق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 8‏]‏ إلى آخر ما يفيد التنزيه عما يزعمه النصارى والمشركون، ورفع ‏{‏الكبير‏}‏ على أنه خبر بعد خبر، وجوز أن يكون ‏{‏عالم‏}‏ مبتدأ وهو خبره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول‏}‏ أخفاه في نفسه ولم يتلفظ به، وقيل‏:‏ تلفظ به بحيث لم يسمع نفسه دون غيره ‏{‏وَمَنْ جَهَرَ بِهِ‏}‏ من يقابل ذلك بالمعنيين ‏{‏وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ‏}‏ مبالغ في الاختفاء كأنه مختف ‏{‏باليل‏}‏ وطالب للزيادة ‏{‏وَسَارِبٌ بالنهار‏}‏ أي ظاهر فيه كما روي عن ابن عباس، وهو على ما قال جمع في الأصل اسم فاعل من سرب إذا ذهب في سربه أي طريقه، ويكون بمعنى تصرف كيف شاء قال الشاعر‏:‏

إني سربت وكنت غير سروب *** وتقرب الأحلام غير قريب

وقال الآخر‏:‏

وكل أناس قاربوا قيد فحلهم *** ونحن خلعنا قيده فهو سارب

أي فهو متصرف كيف شاء لا يدفع عن جهة يفتخر بعزة قومه، فما ذكره الحبر لازم معناه، وقرينته وقوعه في مقابلة مستخف، والظاهر من كلام بعضهم أنه حقيقة في الظاهر، ورفع ‏{‏سَوَآء‏}‏ على أنه خبر مقدم و‏{‏مِنْ‏}‏ مبتدأ مؤخر، ولم يثن الخبر لأنه في الأصل مصدر وهو الآن بمعنى مستو ولم يجىء تثنيته في أشهر اللغات، وحكى أبو زيدهما سواآن، و‏{‏مّنكُمْ‏}‏ حال من الضمير المستتر فيه لا في ‏{‏أَسَرَّ‏}‏ و‏{‏جَهَرَ‏}‏ لأن ما في حيز الصلة والصفة لا يتقدم على الموصول والموصوف، وجوز أبو حيان كون ‏{‏سَوَآء‏}‏ مبتدأ لوصفه بمنكم وما بعده الخبر، وكذا أعرب سيبويه قول العرب‏:‏ سواء عليه الخير والشر، وقول ابن عطية‏:‏ إن سيبويه ضعف ذلك بأنه ابتداء بنكرة لا يصح و‏{‏سارب‏}‏ عطف على ‏{‏صَلَحَ مِنْ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ سواء منكم إنسان هو مستخف وآخر سارب، والنكتة في زيادة هو في الأول أنه الدال على كمال العلم فناسب زيادة تحقيق وهو النكتة في حذف الموصوف عن سارب أيضاً، والوجه في تقديم ‏{‏أَسَرَّ‏}‏ وأعماله في صريح القول على جهره وأعماله في ضميره، وجوز أن يكون على ‏{‏مُسْتَخْفٍ‏}‏ واستشكل بأن سواء يقتضي ذكر شيئين فإذا كان سارب معطوفاً على جزء الصلة أو الصفة لا يكون هناك إلا شيء واحد، ولا يجىء هذا على الأول لأن المعنى ما علمت‏.‏ وأجيب بأن ‏{‏مِنْ‏}‏ عبارة عن الاثنين كما في قوله‏:‏

تعال فإن عاهدتني لا تخونني *** نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

فكأنه قيل‏:‏ سواء منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بالنهار، قال في «الكشف»‏:‏ وعلى الوجهين ‏{‏مِنْ‏}‏ موصوفة لا موصولة فيحمل الأوليان أيضاً على ذلك ليتوافق الكل، وإيثارها على الموصولة دلالة على أن المقصود الوصف فإن ذلك متعلق العلم، وأما لو قيل‏:‏ سواء الذي أسر القول والذي جهر به فإن أريد الجنس من باب‏:‏

ولقد أمر على اللئيم يسبني *** فهو والأول سواء لكن الأول نص، وإن أريد المعهود حقيقة أو تقديراً لزم إيهام خلاف المقصود لما مر، وقيل‏:‏ في الكلام موصول محذوف والتقدير ومن هو سارب كقول أبي فراس‏:‏

فليت الذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خراب

وقول حسان‏:‏

أمن يهجو رسول الله منكم *** ويمدحه وينصره سواء

وهو ضعيف جداً لما فيه من حذف الموصول مع صدر الصلة، وقد ادعى الزمخشري أن أحد الحذفين سائغ لكن اجتماعهما منكر من المنكرات بخلاف البيتين، وقال أبو حيان‏:‏ إن حذف من هنا وإن كان للعلم به لا يجوز عند البصريين ويجوز عند الكوفيين، وزعم بعضهم أن المقصود استواء الحالتين سواء كانتا لواحد أو لاثنين، والمعنى سواء استخفاؤه وسروبه بالنسبة إلى علم الله تعالى فلا حاجة إلى توجيه الآية بما مر، وكذا حال ما تقدمه فعبر بأسلوبين والمقصود واحد‏.‏

وتعقب بأنه لا تساعده العربية لأن ‏{‏مِنْ‏}‏ لا تكون مصدرية ولا سابك في الكلام‏.‏ وزعم ابن عطية جواز أن تكون الآية متضمنة ثلاثة أصناف فالذي يسر طرف والذي يجهر طرف مضاد للأول والثالث متلون يعصي بالليل مستخفياً ويظهر البراءة بالنهار وهو كما ترى‏.‏ ومن الغريب ما نقل عن الأخفش وقطرب تفسير المستخفي بالظاهر فإنه وإن كان موجوداً في كلامهم بهذا المعنى لكن يمنع عنه في الآية ما يمنع، ثم إن في بيان علمه تعالى بما ذكر بعد بيان شمول علمه سبحانه الأشياء كلها ما لا يخفى من الاعتناء بذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏لَهُ‏}‏ الضمير راجع إلى من تقدم ممن أسر بالقول وجهر به إلى آخره باعتبار تأويله بالمذكور وإجرائه مجرى اسم الإشارة وكذا المذكورة بعده ‏{‏معقبات‏}‏ ملائكة تعتقب في حفظه وكلائته جمع معقبة من عقب مبالغة في عقبه إذا جاء على عقبه واصله من العقب وهو مؤخر الرجل ثم تجوز به عن كون الفعل بغير فاصل ومهلة كأن أحدهم يطأ عقب الآخر، فالتفعيل للتكثير وهو إما في الفاعل أو في الفعل لا للتعدية لأن ثلاثيه متعد بنفسه، ويجوز أن يكون إطلاق المعقبات على الملائكة عليهم السلام باعتبار أنهم يعقبون أقوال الشخص وأفعاله أي يتبعونها ويحفظونها بالكتابة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ إن أصله معتقبات فهو من باب الافتعال فأدغمت التاء في القاف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاء المعذرون‏}‏ ‏(‏التوبة؛ 90‏)‏‏}‏ أي المعتذرون‏.‏ وتعقب بأنه وهم فاحش فإن التاء لا تدغم في القاف من كلمة أو كلمتين، وقد نص الصرفيون على أن القاف والكاف كل منهما لا يدغم في الآخر ولا يدغمان في غيرهما، والتاء في معقبة للمبالغة كتاء نسابة لأن الملائكة عليهم السلام غير مؤنثين، وقيل‏:‏ هي للتأنيث بمعنى أن معقبة صفة جماعة منهم، فمعنى معقبات جماعات كل جماعة منها معقبة وليس معقبة جمع معقب، وذكر الطبري أنه جمعه وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات وهو كما ترى لكن أوله أبو حيان بأنه أراد بقوله‏:‏ جمع معقب أنه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث معقب فصار مثل الواردة للجماعة الذين يردون وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث وارد؛ وتشبيه ذلك بما ذكر من حيث المعنى لا من حيث صناعة النحو، فبين أن معقبة من حيث أريد به الجمع كرجال من حيث وضع للجمع وإن معقبات من حيث استعمل جمعاً لمعقبة المستعمل في الجمع كرجالات الذي هو جمع رجال‏.‏

وقرأ أبي‏.‏ وإبراهيم ‏{‏معاقيب‏}‏ وهو جمع كما قال الزمخشري جمع معقب أو معقبة بتشديد القاف فيهما والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير، وقال ابن جني‏:‏ إنه تكسير معقب كمطعم ومطاعيم ومقدم ومقاديم كأنه جمع على معاقبة ثم حذفت الهاء من الجمع وعوضت الياء عنها ولعله الأظهر، وقرىء ‏{‏معتقبات‏}‏ من اعتقب ‏{‏معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ‏}‏ متعلق بمحذوف وقع صفة لمعقبات أو حالاً من الضمير في الظرف الواقع خبراً له، فالمعنى أن المعقبات محيطة بجميع جوانبه أو هو متعلق بمعقبات و‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية، فالمعنى أن المعقبات تحفظ ما قدم وأخر من الأعمال أي تحفظ جميع أعماله، وجوز أن يكون متعلقاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَحْفَظُونَهُ‏}‏ والجملة صفة معقبات أو حال من الضمير في الظرف‏.‏

وقرأ أبي ‏{‏مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ‏}‏ وابن عباس ‏{‏وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ‏}‏ وروى مجاهد عنه أنه قرأ ‏{‏لَهُ معقبات مّن خَلْفِهِ *بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ‏}‏ ‏{‏مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ متعلق بما عنده و‏{‏مِنْ‏}‏ للسببية أي يحفظونه من المضار بسبب أمر الله تعالى لهم بذلك، ويؤيد ذلك أن علياً كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وجعفر بن محمد‏.‏ وعكرمة رضي الله تعالى عنهم قرؤا ‏{‏بِأَمْرِ الله‏}‏ بالباء وهي ظاهرة في السببية‏.‏

وجوز أن يتعلق بذلك أيضاً لكن على معنى يحفظونه من بأسه تعالى متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له أي يحفظونه باستدعائهم من الله تعالى أن يمهله ويؤخر عقابه ليتوب أو يطلبون من الله تعالى أن يغفر له ولا يعذبه أصلاً، وقال في «البحر»‏:‏ إن معنى الكلام يصير على هذا الوجه إلى التضمين أي يدعون له بالحفظ من نقمات الله تعالى‏.‏

وقال الفراء‏.‏ وجماعة‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير أي له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، وروى هذا عن مجاهد‏.‏ والنخعي‏.‏ وابن جريج فيكون ‏{‏مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ متعلقاً بمحذوف وقع صفة لمعقبات أي كانئة من أمره تعالى، وقيل‏:‏ إنه لا يحتاج في هذا المعنى إلى دعوى تقديم وتأخير بأن يقال‏:‏ إنه سبحانه وصف المعقبات بثلاث صفات‏.‏ إحداها‏:‏ كونها كائنة من بين يديه ومن خلفه‏.‏ وثانيتها‏:‏ كونها حافظة له‏.‏ وثالثتها‏:‏ كونها كائنة من أمره سبحانه، وإن جعل ‏{‏مِن بَيْنِ يَدَيْهِ‏}‏ متعلقاً بيحفظونه يكون هناك صفتان الجملة والجار والمجرور، وتقديم الوصف بالجملة على الوصف به سائغ شائع في الفصيح، وكأن الوصف بالجملة الدالة على الديمومة في الحفظ لكونه آكد قدم على الوصف الآخر‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن جرير‏.‏ وأبو الشيخ عن ابن عباس أن المراد بالمعقبات الحرس الذين يتخذهم الأمراء لحفظهم من القتل ونحوه، وروى مثله عن عكرمة، ومعنى ‏{‏يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ أنهم يحفظونهم من قضاء الله تعالى وقدره ويدفعون عنه ذلك في توهمه لجهله بالله تعالى‏.‏ ويجوز أن يكون من باب الاستعارة التهكمية على حد ما اشتهر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏ فهو مستعار لضده وحقيقته لا يحفظونه‏.‏ وعلى ذلك يخرج قول بعضهم‏:‏ إن المراد لا يحفظونه لا على أن هناك نفياً مقدراً كما يتوهم، والأكثرون على أن المراد بالمعقبات الملائكة‏.‏

وفي «الصحيح» ‏"‏ يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ‏"‏ وذكروا أن مع العبد غير الملائكة الكرام الكاتبين ملائكة حفظة، فقد أخرج أبو داود‏.‏ وابن المنذر وابن أبي الدنيا‏.‏

وغيرهم عن علي كرم الله تعالى وجهه قال‏:‏ لكل عبد حفظة يحفظونه لا يخر عليه حائط أو يتردى في بئر أو تصيبه دابة حتى إذا جاء القدر الذي قدر له خلت عنه الحفظة فأصابه ما شاء الله تعالى أن يصيبه‏.‏

وأخرج ابن أبي الدنيا‏.‏ والطبراني‏.‏ والصابوني عن أبي أمامة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وكل بالمؤمن ثلاثمائة وستون ملكاً يدفعون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك للبصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل من الذباب في اليوم الصائف وما لو بدا لكم لرأيتموه على كل سهل وجبل كلهم باسط يديه فاغر فاه وما لو وكل العبد فيه إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين»

وأخرج ابن جرير عن كنانة العدوي قال‏:‏ دخل عثمان رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك‏؟‏ فقال‏:‏ «ملك عن يمينك على حسناتك وهو أمير على الذي على الشمال إذا عملت حسنة كتبت عشراً فإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين‏:‏ أأكتب‏؟‏ قال‏:‏ لا لعله يستغفر الله تعالى ويتوب فإذا قال ثلاثاً قال‏:‏ نعم اكتب أراحنا الله تعالى منه فبئس القرين ما أقل مراقبته لله سبحانه وأقل استحياءه منه تعالى يقول الله جل وعلا‏:‏ ‏{‏مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 18‏]‏ وملكان من بين يديك وملكان من خلفك يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُ معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله تعالى رفعك وإذا تجبرت على الله تعالى قصمك وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية فيه وملكان على عينك فهؤلاء عشرة أملاك ينزلون على بني آدم في النهار وينزل مثلهم في الليل»

والأخبار في هذا الباب كثيرة‏.‏ واستشكل أمر الحفظ بأن المقدر لا بد من أن يكون وغير المقدر لا يكون أبداً فالحفظ من أي شيء‏.‏ وأجيب بأن من القضاء والقدر ما هو معلق فيكون الحفظ منه ولهذا حسن تعاطي الأسباب وإلا فمثل ذلك وارد فيها بأن يقال‏:‏ إن الأمر الذي نريد أن نتعاطاه إما أن يكون مقدراً وجوده فلا بد أن يكون أو مقدراً عدمه فلا بد أن لا يكون فما الفائدة في تعاطيه والتشبث بأسبابه‏.‏ وتعقب هذا بأن ما ذكر إنما حسن منا لجهلنا بأن ما نطلبه من المعلق أو من غيره والمسألة المستشكلة ليست كذلك، وأنت تعلم أن الله تعالى جعل في المحسوسات أسباباً محسوسة وربط بها مسبباتها حسبما تقضيه حكمته الباهرة ولو شاء لأوجد المسببات من غير أسباب لغناه جل شأنه الذاتي، ولا مانع من أن يجعل في الأمور الغير المحسوسة أسباباً يربط بها المسببات كذلك، وحينئذ يقال‏:‏ إنه جلت عظمته جعل أولئك الحفظة أسباباً للحفظ كما جعل في المحسوس نحو الجفن للعين سبباً لحفظها مع أنه ليس سبباً إلا للحفظ مما لم يبرم من قضائه وقدره جل جلاله، والوقوف على الحكم بأعيانها مما لم نكلف به، والعلم بأن أفعاله تالى لا تخلو عن الحكم والمصالح على الإجمال مما يكفي المؤمن، ويقال نحو هذا في أمر الكرام الكاتبين فهم موجودون بالنص وقد جعلهم الله تعالى حفظة لأعمال العبد كاتبين لها ونحن نؤمن بذلك وإن لم نعلم ما قلمهم وما مدادهم وما قرطاسهم وكيف كتابتهم وأين محلهم وما حكمة ذلك مع أن علمه تعالى كاف في الثواب والعقاب عليها وكذا تذكر الإنسان لها وعلمه وعلمه بها يوم القيامة كاف في دفع ما عسى أن يختلج في صدره عند معاينة ما يترتب عليها‏.‏

ومن الناس من خاض في بيان الحكمة وهو أسهل من بيان ما معها‏.‏

وذكر الإمام الرازي في جواب السؤال عن فائدة جعل الملائكة عليهم السلام موكلين علينا كلاماً طويلاً فقال‏:‏ إعلم أن ذلك غير مستبعد لأن المنجمين اتفقوا على أن التدبير في كل يوم لكوكب على حدة وكذا القول في كل ليلة، ولا شك أن لتلك الكواكب أرواحاً عندهم فتلك التدبيرات المختلفة لتلك الكواكب أوراحاً عندهم فتلك التدبيرات المختلفة لتلك الأرواح في الحقيقة، وكذا القول في تدبير الهيلاك والكدخداه على ما يقولون‏.‏ وأما أصحاب الطلسمات فهذا الكلام مشهور على ألسنتهم فإنهم يقولون‏:‏ أخبرنا الطباع التام بكذا، ومرادهم به أن لكل إنسان روحاً فلكية تتولى صلاح مهماته ودفع بلياته وآفاته، وإذا كان هذا متفقاً عليه بين قدماء الفلاسفة وأصحاب الأحكام فكيف يستبعد مجيئة في الشرع‏.‏

وتمام التحقيق فيه أن الأرواح البشرية مختلفة في جواهرها وطبائعها فبعضها خية وبعضها شريرة وبعضها حرة وبعضها نذلة وبعضها قوية القهر وبعضها ضعيفته، وكما أن الأمر في الأرواح البشرية كذلك فكذلك القول في الأرواح الفلكية، ولا شك أن الأرواح الفلكية في كل باب وصفة أقوى من الأرواح البشرية، وكل طائفة من الأرواح البشرية تكون متشاركة في طبيعة خاصة وصفة مخصوصة وتكون في مرتبة روح من الأرواح الفلكية مشاكلة لها في الطبيعة والخاصية، فتكون تلك الأرواح البشرية كأنها أولاد لذلك الروحي الفلكي وإذا كان الأمر كذلك فإن ذلك الروح الفلكي يكون معيناً على مهماتها ومرشداً لها إلى مصالحها وعاصماً إياها عن صنوف الآفات، وهذا كلام ذكره محققو الفلاسفة، وبذلك يعلم أن ما وردت به الشريعة أمر مقبول عند الكل فلا يمكن استنكاره اه‏.‏

ولعل مقصوده بذلك تنظير أمر الحفظة مع العبد بأمر الأرواح الفلكية معه على زعم الفلاسفة في الجملة، وإلا فما يقوله المسلمون في أمرهم أمر وما يقوله الفلاسفة في أمر تلك الأرواح أمر آخر وهيهات هيهات أن نقول بما قالوا فإنه بعيد عما جاء عن الشارع عليه الصلاة والسلام بمراحل، ثم ذكر عليه الرحمة من فوائد الحفظة للأعمال أن العبد إذا علم أن الملائكة عليهم السلام يحضرونه ويحصون عليه أعماله وهم هم كان أقرب إلى الحذر عن ارتكاب المعاصي، كمن يكون بين يدي أناس أجلاء من خدام الملك موكلين عليه فإنه لا يكاد يحاول معصية بينهم، وقد ذكر ذلك غيره ولا يخلو عن حسن، ثم نقل عن المتكلمين في فائدة الصحف المكتوبة أنها وزنها يوم القيامة فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية، ويظهر كل من الأمرين للخلائق‏.‏

وتعقبه القاضي بأن ذلك بعيد لأن الأدلة قد دلت على أن كل واحد قبل مماته عند المعاينة يعلم أنه من السعداء أو من الأشقياء والعياذ بالله تعالى فلا يجوز توقف حصول المعرفة على الميزان، ثم أجاب بأنه لا يمتنع أيضاً ما ذكرناه لأمر يرجع إلى حصول سرور العبد عند الخلق العظيم بظهور أنه من أولياء الله تعالى لهم وحصول ضد ذلك لمن كان من أعداء الله تعالى، ولا يخفى أن هذا مبني على أن الذي يوزن هو الصحف وهو أحد أقوال في المسؤلة‏.‏ نعم ذهب إليه جمع من الأجلة لحديث البطاقة والسجلات المشهور، وكذا على أن الكتابة على معناها الظاهر وهو الذي ذهب إليه أهل الحديث بل وغيرهم فيما أعلم ونقل عن حكماء الإسلام‏:‏ معنى آخر فقال‏:‏ إن الكتابة عبارة عن نقوش مخصوصة وضعت بالاصطلاح لتعريف بعض المعاني المخصوصة فلو قدرنا كون تلك النقوش دالة على تلك المعاني بأعيانها وذواتها كانت تلك الكتابة أقوى وأكمل، وحينئذ نقول‏:‏ إن الإنسان إذا أتى بعمل من الأعمال مرات كثيرة متوالية حصل في نفسه بسبب ذلك ملكة قوية راسخة، فإن كانت تلك الملكة ملكة في أعمال نافعة في السعادات الروحانية عظم ابتهاجه بعد الموت، وإن كانت تلك الملكة ملكة ضارة في الأحوال الروحانية عظم تضرره بها بعد، ثم قال‏:‏ إذا ثبت هذا فنقول‏:‏ إن التكرير الكثير إن كان سبباً لحصول تلك الملكة الراسخة كان لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة، وذلك الأثر وإن كان غير محسوس إلا أنه حاصل في الحقيقة، وإذا عرف هذا ظهر أنه لا يحصل للإنسان لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويحصل منه في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة وآثار الشقاوة قل أو كثر، وهذا هو المراد من كتب الأعمال عند حكماء الإسلام والله تعالى العالم بحقائق الأمور انتهى، وقد رأيت ذلك لبعض الصوفية‏.‏

وأنت تعلم أنه خلاف ما نطقت به الآيات والأخبار، ونحن في أمثال هذه الأمور لا نعدل عن الظاهر ما أمكن، والحق أبلج وما بعد الحق إلا الضلال هذا‏.‏ ومن الناس من جعل ضمير ‏{‏لَهُ‏}‏ لمن الأخير والأول أولى، ومنهم من جعله لله تعالى وما بعده لمن وفيه تفكيك للضمائر من غير داع، ومنهم من جعله للنبي صلى الله عليه وسلم وهو عليه الصلاة والسلام معلوم من السياق وقد تقدم الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 20‏]‏ الآية‏.‏ واستدل على ذلك بما أخرجه ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والطبراني في الكبير‏.‏ وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس أن أربد ابن قيس‏.‏ وعامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهيا إليه وهو عليه الصلاة والسلام جالس فجلسا بين يديه فقال عامر‏:‏ ما تجعل لي إن أسلمت‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم قال‏:‏ أتجعل لي إن أسلمت الأمر بعدك‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ليس ذلك لك ولا لقومك ولكن لك أعنة الخيل قال‏:‏ فاجعل لي الوبر ولك المدر فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا فلما قفى من عنده قال‏:‏ لأملأنها عليك خيلاً ورجلاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يمنعك الله تعالى، وفي رواية وابناء قيلة يريد الأوس والخزرج فلما خرجا قال عامر‏:‏ يا أربد أنى سألهي محمداً عنك بالحديث فاضربه بالسيف فإن الناس إذا قتلته لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب فسنعطيهم الدية فقال أربد‏:‏ افعل فأقبلا راجعين فقال عامر‏:‏ يا محمد قم معي أكلمك فقام عليه الصلاة والسلام معه فخليا إلى الجدار ووقف عامر يكلمه وسل أربد السيف فلما وضع يده عليك يبست على قائمه فلم يستطع سله وأبطأ على عامر فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع فانصرف عنهما وقال عامر لأربد‏:‏ ما لك‏؟‏ قال‏:‏ وضعت يدي على قائم سيفي فيبست فلما خرجا حتى إذا كانا بالرقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فوقع بهما أسيد قال‏:‏ اشخصا يا عدوى الله تعالى لعنكم الله تعالى فقال عامر‏:‏ من هذا يا سعد‏؟‏ فقال‏:‏ هذا أسيد بن حضير الكتائب فقال‏:‏ أما والله إن كان حضير صديقاً لي، ثم إن الله سبحانه أرسل على أربد صاعقة فقتلته وخرج عامر حتى إذا كان بوادي الجريد أرسل الله تعالى عليه قرحة فأدركه الموت، وفي رواية أنه كان يصيح يا لعامر أغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية فأنزل الله تعالى فيهما‏:‏

‏{‏الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 8‏]‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَهُ معقبات‏}‏ إلى آخره ثم قال‏:‏ المعقبات من أمر الله يحفظون محمداً صلى الله عليه وسلم، وجاء في رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ هذه للنبي عليه الصلاة والسلام خاصة، والأكثرون على اعتبار العموم، وسبب النزول لا يأبى ذلك والله تعالى أعلم، ثم أنه سبحانه بعد أن ذكر إحاطة علمه بالعباد وإن لهم معقبات يحفظونهم من أمره جل شأنه نبه على لزوم الطاعة ووبال المعصية فقال عز من قائل‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ‏}‏ من النعمة والعافية ‏{‏حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ‏}‏ ما اتصفت به ذواتهم من الأحوال الجميلة لا ما أضمروه ونووه فقط، والمراد بتغبير ذلك تبديله بخلافه لا مجرد تركه، وجاء عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعاً يقول الله تعالى‏:‏ «وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية كانوا على ما كرهت من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي وما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية كانوا على ما أحببت من طاعتي ثم تحولوا عنها إلى ما كرهت من معصيتي إلا تحولت لهم عما يحبون من رحمتي إلى ما يكرهون من عذابي» أخرجه ابن أبي شيبة‏.‏ وأبو الشيخ‏.‏ وابن مردويه‏.‏

واستشكل ظاهر الآية حيث أفادت أنه لا يقع تغيير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي مع أن ذلك خلاف ما قررته الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة ومنه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏ وقوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل‏:‏ «أنهلك وفينا الصالحون‏؟‏ نعم إذا كثر الخبث» وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله سبحانه بعقاب» في أشياء كثيرة وأيضاً قد ينزل الله تعالى بالعبد مصائب يزيد بها أجره، وقد يستدرج المذنب بترك ذلك‏.‏

وأولها ابن عطية لذلك بأن المراد حتى يقع تغيير ما منهم أو ممن هو منهم كما غير سبحانه بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم والحق أن المراد أن ذلك عادة الله تعالى الجارية في الأكثر لا أنه سبحانه لا يصيب قوماً إلا بتقدم ذنب منهم فلا إشكال، قيل‏:‏ ولك أن تقول‏:‏ إن قوله سبحانه‏:‏

‏{‏وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ‏}‏ تتميم لتدارك ما ذكر وفيه تأمل، والسوء يجمع كل ما يسوء من مرض وفقر وغيرهما من أنواع البلاء، و‏{‏مَرَدَّ‏}‏ مصدر ميمي أي فلا رد له، والعامل في ‏{‏إِذَا‏}‏ ما دل عليه الجواب لأن معمول المصدر وكذا ما بعد الفاء لا يتقدم عليه، والتقدير كما قال أبو البقاء وقع أو لم يرد أو نحو ذلك، والظاهر أن ‏{‏إِذَا‏}‏ للكلية، وقد جاءت كذلك في أكثر الآيات ‏{‏وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ‏}‏ سبحانه ‏{‏مِن وَالٍ‏}‏ يلي أمورهم من ضرر ونفع ويدخل في ذلك دخولاً أولياً دفع السوء عنهم، وقيل‏:‏ الأول إشارة إلى نفي الدافع بالدال وهذا إشارة إلى نفي الرافع بالراء لئلا يتكرر ولا حاجة إلى ذلك كما لا يخفى‏.‏

واستدل بالآية على أن خلاف مراد الله تعالى محال‏.‏ واعترض بأنها إنما تدل على أنه تعالى إذا أراد بقوم سوءاً وجب وقوعه ولا تدل على أن كل مراد له تعالى كذلك ولا على استحالة خلافه بل على عدم وقوعه، وأجيب بأنه لا فرق بين إرادة السوء وإرادة غيره لكن اقتصر على إرادة الأول لأن الكلام في الانتقام من الكفار وهو أبلغ في تخويفهم فإذا امتنع رد السوء فغيره كذلك، والمراد بالاستحالة عدم الإمكان الوقوعي لا الذاتي ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر، ومن أعجب ما قيل‏:‏ إن الجمهور احتجوا بالآية على أن المعاصي مما يشملها السوء وأنها يخلقه تعالى، ومن الناس من جعل الآية متعلقة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 6‏]‏ إلى آخره وبين ذلك أبو حيان بما لا يرتضيه إنسان، وقيل‏:‏ إن فيها إيذاناً بأنهم بما باشروه من إنكار البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية قد غيروا ما في أنفسهم من الفطرة فاستحقوا لذلك حلول غضب الله تعالى هذا‏.‏ ووقف ابن كثير على ‏{‏هَادٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 7‏]‏ وكذا ‏{‏وَاقٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 34‏]‏ حيث وقع وعلى ‏{‏وَالٍ‏}‏ هنا و‏{‏بَاقٍ‏}‏ في النحل ‏(‏96‏)‏‏}‏ بإثبات الياء وباقي السبعة وقفوا بحذفها‏.‏ وفي الإقناع لأبي جعفر ابن الباذش عن ابن مجاهد الوقف في جميع الباب لابن كثير بالياء وهذا لا يعرفه المكيون، وفيه أيضاً عن أبي يعقوب الأزرق عن ورش أنه خيره في الوقف في جميع الباب بين أن يقف بالياء وأن يقف بحذفها كذا في «البحر» وفيه أنه أثبت ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو في رواية ياء ‏{‏المتعال‏}‏ وقفاً ووصلاً وهو الكثير في لسان العرب وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً لأنها كذلك رسمت في الإمام‏.‏

واستشهد سيبويه لحذفها في الفواصل والقوافي وأجاز غيره حذفها مطلقاً ووجهه حذفها مع أنها تحذف مع التنوين وأل معاقبة له أجراء المعاقب مجرى المعاقب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق خَوْفًا‏}‏ من الصاعقة ‏{‏وَطَمَعًا‏}‏ في الغيث قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه قال‏:‏ خوفاً لأهل البحر وطمعاً لأهل البر‏.‏ وعن قتادة خوفاً للمسافر من أذى المطر وطمعاً للمقيم في نفعه، وعن الماوردي خوفاً من العقاب وطمعاً في الثواب، والمراد من البر معناه المتبادر وعن ابن عباس أن المراد به الماء فهو مجاز من باب إطلاق اليء على ما يقارنه غالباً‏.‏

ونصب ‏{‏خَوْفًا وَطَمَعًا‏}‏ على أنهعما مفعول له ليركم واتحاد فاعل العلة والفعل المعلل ليس شرطاً للنصب مجمعاً، ففي شرح الكافية للرضى وبعض النحاة لا يشترط تشاركهما في الفاعل وهو الذي يقوي في ظني وإن كان الأغلب هو الأول‏.‏ واستدل على جواز عدم التشارك بما ذكرناه في حواشينا على شرح القطر للمصنف‏.‏

وفي «همع الهوامع» و«شرط الأعلم» والمتأخرون المشاركة للفعل في الوقت والفاعل ولم يشترط ذلك سيبويه ولا أحد من المتقدمين، واحتاج المشترطون إلى تأويل هذا للاختلاف في الفاعل فإن فاعل الإراءة هو الله تعالى وفاعل الطمع والخوف غيره سبحانه فقيل‏:‏ في الكلام مضاف مقدر وهو إرادة أي يريكم ذلك إرادة أن تخافوا وتطمعوا فالمفعول له المضاف المقدر وفاعله وفاعل الفعل المعلل به واحد، وقيل‏:‏ الخوف والطمع موضوعان موضع الإخافة والأطماع كما وضع النبات موضع الإنبات في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الارض نَبَاتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏ والمصادر ينوب بعضها عن بعض أو هما مصدران محذوفاً الزوائد كما في «شرح التسهيل»، وقيل‏:‏ إنهما مفعول له باعتبار أن المخاطبين رائين لأن إراءتهم متضمنة لرؤيتهم والخوف والطمع من أفعالهم فهم فعلوا الفعل المعلل بذلك وهو الرؤية فيرجع إلى معنى قعدت عن الحرب جبناً وهذا على طريقة قول النابغة الذبياني‏:‏

وحلت بيوتي في يفاع ممنع *** يخال به راعي الحمولة طائراً

حذارا على أن لا تنال مقادتي *** ولانسوتي حتى يمتن حرائرا

حيث قيل‏:‏ إنه على معنى أحللت بيوتي حذاراً، ورد ذلك المولى أبو السعود بأنه لا سبيل إليه لأن ما وقع في معرض العلة الغاثية لا سيما الخوف لا يصلح علة لرؤيتهم‏.‏ وتعقبه عزمي زاده وغيره بأن كلام واه لأن القائل صرح بأنه من قبيل قعدت عن الحرب جبناً ويريد أن المقعول له حامل على الفعل وموجود قبله وليس مما جعل في معرض العلة الغائية كما قالوا في ضربته تأديباً فلا وجه للرد عليه بما ذكر، وقيل‏:‏ التعليل هنا مثله في لام العاقبة لا أن ذلك من قبيل قعدت عن الحرب جبناً كما ظن لأن الجبن باعث على القعود دونهما للرؤية وهو غير وارد لأنه باعث بلا شيبهة، واعترض عليه العزمي بأن اللام المقدرة في المفعول له لم يقل أحد بأنها تكون لام العاقبة ولا يساعده الاستعمال وهو ليس بشيء، كيف وقد قال النحاة كما في الدر المصون‏:‏ إنه كقول النابغة السابق، وقال أيضاً‏:‏ بقي ههنا بحث وهو أن مقتضى جعل الآية نحو قعدت إلى آخره على ما قاله ذلك القائل أن يكون الخوف والطمع مقدمين في الوجود على الرؤية وليس كذلك بل هما إنما يحصلان منها ويمكن أن يقال‏:‏ المراد بكل من الخوف والطمع على ما قاله ما هو من الملكات النفسانية كالجبن في المثال المذكور ويصح تعليل الرؤية من الإراءة بهما يعني أن الرؤية من الإراءة بهما يعني أن الرؤية التي تقع بإراءة الله سبحانه إنما كانت لما فيهم من الخوف والطمع إن لو لم يكن في جبلتهم ذلك لما كان لتلك الرؤية فائدة اه، ولا يخفى ما فيه من التعسف، وقد علمت أنه غير وارد، وقيل‏:‏ إن النصب على الحالية من ‏{‏البرق‏}‏ أو المخاطبين بتقدير مضاف أو تأويل المصدر باسم المفعول أو الفاعل أو إبقاء المصدر على ما هو عليه للمبالغة كما قيل في زيد عدل ‏{‏وَيُنْشِىء‏}‏ أي الغمام المنسحب في الهواء ‏{‏السحاب الثقال‏}‏ بالماء وهي جمع ثقيلة وصف بها السحاب لكونه اسم جنس في معنى الجمع ويذكر ويؤنث فكأنه جمع سحابة ثقيلة لا أنه جمع أو اسم جنس جمعى لا طلاقة على الواحد وغيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَيُسَبّحُ الرعد‏}‏ قيل‏:‏ هو اسم للصوت المعلوم والكلام على حذف مضاف أي سامعو الرعد أو الإسناد مجازي من باب الإسناد للحامل والسبب، والباء في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِحَمْدِهِ‏}‏ للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال أي يسبح السامعون لذلك الصوت ملتبسين بحمد الله تعالى فيضجون بسبحان الله والحمد لله‏.‏

وقيل‏:‏ لا حذف ولا تجوز في الإسناد وإنما التجوز في التسبيح والتحميد حيث شبهع دلالة الرعد بنفسه على تنزيهه تعالى عن الشريك والعجز بالتسبيح والتنزيه اللفظي ودلالته على فضله جل شأنه ورحمته بحمد الحامل لما فيهما من الدلالة على صفات الحمال، وقيل‏:‏ إنه مجاز مرسل استعمل في لازمه، وقيل‏:‏ الرعد اسم ملك فإسناد التسبيح والتحميد إليه حقيقة‏.‏

قال في «الكشف»‏:‏ والأشبه في الآية الحمل على الإسناد المجازي ليتلاءم الكلام فإن الرعد في المتعارف يقع على الصوت المخصوص وهو الذي يقرن بالذكر مع البرق والسحاب والكلام في إراءة الآيات الدالة على القدرة الباهرة وإيجادها وتسبيح ملك الرعد لا يلائم ذلك، أما حمل الصوت المخصوص للسامعين على التسبيح والحمد فشديد الملائمة جداً، وإذا حمل على الإسناد حقيقة فالوجه أن يكون اعتراضاً دلاة على اعتراف الملك الموكل بالسحاب وسائر الملائكة بكمال قدرته سبحانه جلت قدرته وجحود الإنسان ذلك، وأنت تعلم أن تسبيح الملائكة على ما ادعى أنه الأشبه يبقى كالاعتراض في البين، والذي اختاره أكثر المحدثين كون الإسناد حقيقياً بناء على أن الرد اسم للملك الذي يسوق السحاب، فقد أخرج أحمد‏.‏ والترمذي وصححه‏.‏ والنسائي‏.‏ وآخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ أخبرنا ما هذا الرعد‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ملك من ملائكة الله تعالى موكل بالسحاب بيديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوق حيث أمره الله تعالى قالوا‏:‏ فما هذا الصوت الذي نسمع‏؟‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ صوته فقالوا‏:‏ صدقت، والاخبار في ذلك كثيرة، واستشكل بأنه لو كان علماً للملك لما ساغ تنكيره وقد تنكيره وقد نكر في البقرة، وأجيب بأن له إطلاقين ثانيهما إطلاقه على نفس الصوت والتنكير على هذا الإطلاق، وقال ابن عطية‏:‏ وقيل‏:‏ إن الرعد ريح تخفق بين السحاب، وروى ذلك عن ابن عباس، وتعقبه أبو حيان بقوله‏:‏ وهذا عندي لا يصح فإن ذلك من نزغات الطبيعيين وغيره‏.‏

وقال الإمام‏:‏ إن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية وللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره وكذا القول في الرياح وسائر الآثار العلوية، وهو عين ما قلنا‏:‏ من أن الرعد اسم لملك من الملائك يسبح الله تعالى، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء فكيف يليق بالعاقل الإنكار اه‏.‏

وتعقبه أبو حيان أيضاً بأن غرضه جريان ما يتخيله الفلاسفة على مناهج الشريعة ولن يكون ذلك أبداً، ولقد صدق رحمه الله تعالى في عدم صحة التطبيق بين ما جاءت به الشريعة وما نسجته عناكب أفكار الفلاسفة‏.‏ نعم إن ذلك ممكن في أقل قليل من ذاك وهذا، والمشهور عن الفلاسفة أن الريح تحتقن في داخل السحاب ويستولى البرد على ظاهره فيتجمد السطح الظاهر ثم أن ذلك الريح يمزقه تمزيقاً عنيفاً فيتولد من ذلك حركة عنيفة وهي موجبة للسخونة وليس البرق والرعد إلا ما حصل من الحركة وتسخينها، وأما السحاب فهو أبخرة متصاعدة قد بلغت في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء لكن لما لم يقو البرد تكاثفت بذلك القدر من البرد واجتمعت وتقاطرت ويقال للمتقاطر مطر‏.‏ ورد الأول بأنه خلاف المعقول من وجوه‏.‏ أحدها‏:‏ أنه لو كان الأمر كما ذكر لوجب أن يكون كلما حصل البر حصل الرعد وهو الصوت الحادث من تمزيق السحاب ومعلوم أنه كثيراً ما يحدث البر القوي من غير حدوث الرعد‏.‏

ثانيها‏:‏ أن السخونة الحاصلة بسبب قوة الحركة مقابلة بالطبيعة المائية الموجبة للبرد وعند حصول هذا المعارض القوي كيف تحدث النارية بل يقال‏:‏ النيران العظيمة تنطفىء بصب الماء عليها والسحاب كله ماء فكيف يمكن أن يحدث فيه شعلة ضعيفة نارية‏.‏ ثالثها‏:‏ أن من مذهبكم أن النار الصرفة لا لون لها البتة فهب أنه حصلت النارية بسبب قوة المحاكة الحاصلة في أجزاء السحاب لكن من أين حدث ذلك اللون الأحمر‏؟‏ ورد الثاني بأن الأمطار مختلفة فتارة تكون قطراتها كبيرة وتارة تكون صغيرة وتارة تكون متقاربة وأخرى تكون متباعدة إلى غير ذلك من الاختلافات وذلك مع أن طبيعة اورض واحدة وطبيعة الشمس المسخنة للبخارات واحدة يأبى أن يكون ذلك كما قرروا، وأيضاً التجربة دالة على أن للتضرع والدعاء في انعقاد السحاب ونزول الغيث أثراً عظيماً وهو يأبى أن يكون ذلك للطبيعة والخاصية فليس كل ذلك إلا بإحداث محدث حكيم قادر بخلق ما يشاء كيف يشاء، وقال بعض المحققين‏:‏ لا يبعد أن يكون في تكون ما ذكر أسباب عادية كما في الكثير من أفعاله تعالى وذلك لا ينافي نسبته إلى المحدث الحكيم القادر جل شأنه، ومن أنصف لم يسعه إنكار الأسباب بالكلية فإن بعضها كالمعلوم بالضرورة وبهذا أنا أقول، وقد تقدم بعض الكلام في هذا المقام‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم كما أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة إذا هبت الريح أو سمع صوت الرعد تغير لونه حتى يعرف ذلك في وجهه الشريف ثم يقول للرعد‏:‏ «سبحان من سبحت له وللريح اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذاباً»

وأخرج أحمد‏.‏ والبخاري في الأدب المفرد‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وغيرهم عن ابن عمر «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال‏:‏ ‏"‏ اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك ‏"‏

وأخرج أبو داود في مراسيله عن عبيد الله بن أبي جعفر «أن قوماً سمعوا الرعد فكبروا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا سمعتم الرعد فسبحوا ولا تكبروا ‏"‏ وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس ‏"‏ أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول إذا سمع الرعد‏:‏ سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ‏"‏ وأخرج ابن مردويه‏.‏ وابن جرير عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد قال سبحان من يسبح الرعد بحمده ‏"‏

‏{‏والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ‏}‏ أي ويسبح الملائكة عليهم السلام من هيبته تعالى وإجلاله جل جلاله، وقيل‏:‏ الضمير يعود على الرعد، والمراد بالملائكة أعوانه جعلهم الله تعالى تحت يده خائفين خاضعين له وهو قول ضعيف ‏{‏وَيُرْسِلُ الصواعق‏}‏ جمع صاعقة وهي كالصاقعة في الأصل الهدة الكبيرة إلا أن الصقع يقال في الأجسام الأرضية والصعق في الأجسام العلوية، والمراد بها هنا النار النازلة من السحاب مع صوت شديد ‏{‏فَيُصِيبُ‏}‏ سبحانه ‏{‏بِهَا مَن يَشَاء‏}‏ إصابته بها فيهلكه، قيل‏:‏ وهذه النار قيل تحصل من احتكاك أجزاء السحاب، واستدل بما أخرجه ابن المنذر‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ الرعد ملك اسمه الرعد وصوته هذا تسبيحه فإذا اشتد زجره احتك السحاب واصطدم من خوفه فتخرجه الصواعق من بينه، وقال الفلاسفة‏:‏ إن الداخان المحتبس في جوف السحاب إذا نزل ومزق السحاب قد يشتعل بقوة التسخين الحاصل من الحركة الشديدة والمصاكة العنيفة وإذا اشتعل فلطيفه ينطفىء سريعاً وهو البرق وكثيفه لا ينطفىء حتى يصل إلى الأرض وهو الصاعقة، وإذا وصل إليها فربما صار لطيفاً ينفذ في المتخلخل ولا يحرقه بل يبقى منه أثر سواد ويذيب ما يصادمه من الأجسام الكثيفة المندمجة فيذيب الذهب والفضة في الصرة مثلاً ولا يحرقها إلا ما أحرق من المذوب، وقد أخبر أهل التواتر بأن صاعقة وقعت منذ زمان بشيراز على قبة الشيخ الكبير أبي عبد الله بن خفيف قدس سره فأذابت قنديلاً فيها ولم تحرق شيئاً منها، وربما كان كثيفاً غليظاً جداً فيحرق كل شيء أصابه، وكثيراً ما يقع على الجبل فيدكه دكاً، وقد يقع على البحر فيغوص فيه ويحرق ما فيه من الحيوانات، وربما كان جرم الصاعقة دقيقاً جداً مثل السيف فإذا وصل إلى شيء قطعه بنصفين ولا يكون مقدار الانفراج إلا قليلاً، ويحكى أن صبياً كان نائماً بحصراء فأصابت الصاعقة ساقيه فسقطت رجلاه ولم يخرج دم لحصول الكي من حرارتها، وهذا الذي قالوه في سبب تكونها ليس بالبعيد عما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في ذلك، ومادتها على ما نقل بعضهم عن ابن سينا نارية فارقتها السخونة وصارت لاستيلاء البرودة على جوهرها متكاثفة، وقال الإمام في «شرح الإشارات»‏:‏ الصواعق على ما نقل عن الشيخ تشبه الحديد تارة والنحاس تارة والحجر تارة وهو ظاهر في أن مادتها ليست كذلك وإلا لما اختلفت، ومن هنا قيل‏:‏ إن مادتها الأبخرة والأدخنة الشبيهة بمواد هذه الأجسام، وقيل‏:‏ إنها نار تخرج من فم الملك الموكل بالسحاب إذا اشتد زجره‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ عن أبي عمران الجوني قال‏:‏ إن بحوراً من نار دون العرش يكون منها الصواعق، وإذا صح ما روي عن الحبر لا يعدل عنه‏.‏

وقد أخرج سعيد بن منصور‏.‏ وابن المنذر عنه رضي الله تعالى أنه قال‏:‏ «من سمع صوت الرعد فقال سبحانه الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعفة فعلى ديته»‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وغيره عن أبي جعفر قال‏:‏ «الصاعقة تصيب المؤمن والكافر ولا تصيب ذاكراً» وفي خبر مرفوع ما يؤيده، وقد أهلكت أربد كما علمت، وقد أشار إلى ذلك أخوه لأمه لبيد العامري بقوله يرثيه‏:‏

أخشى على أربد الحتوف ولا *** أرهب نوء السماك والأسد

فجعني البرق والصواعق *** بالفارس يوم الكريهة النجد

وفي تلك القصة على ما قال ابن جريج وغيره نزلت الآية‏.‏ وعن مجاهد أن يهودياً ناظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا هو كذلك نزلت صاعقة فأخذت قحف رأسه فنزلت، وقيل‏:‏ إنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى جبار من العرب ليسلم فقال‏:‏ أخبروني عن إله محمد أمن لؤلؤ هو أم من ذهب أم من نحاس‏؟‏ فنزلت عليه صاعقة فأهلكته فنزلت‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ مفعول ‏{‏يُصَيبُ‏}‏ والكلام على ما في «البحر» من باب الأعمال وقد أعمل فيه الثاني إذ كل من ‏{‏يُرْسِلُ‏}‏ و‏{‏يُصَيبُ‏}‏ يطلب ‏{‏مِنْ‏}‏ ولو اعمل الأول لكان التركيب ويرسل الصواعق فيصيب بها على من يشاء، لكن جاء على الكثير في «لسان العرب» المختار عند البصريين وهو إعمال الثاني، ثم إنه تعالى بعد أن ذكر علمه النافذ في كل شيء واستواء الظاهر والخفي عنده تعالى وما دل على قدرته الباهرة ووحدانيته قال جل شأنه‏:‏ ‏{‏وَهُمْ‏}‏ أي الذين كفروا وكذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأنكروا آياته ‏{‏يجادلون فِى الله‏}‏ حيث يكذبون ما يصفه الصادق به من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس ومجازاتهم، فالمراد بالمجادلة فيه تعالى المجادلة في شأنه سبحانه وما أخبر به عنه جل شأنه، وهي من الجدل بفتحتين أشد الخصومة، وأصله من الجدل بالسكون وهو فتل الحبل ونحوه لأنه يقوى به ويشد طاقاته‏.‏

وقال الراغب‏:‏ أصل ذلك من جدلت الحبل أي أحكمت فتله كأن المتجادلين يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه، وقيل‏:‏ الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة، وإلى تفسير الآية بما ذكر ذهب الزمخشري، قال في «الكشف»‏:‏ وفي كلامه إشارة إلى أن في الكلام التفاتاً لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَوَاء مّنْكُمْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 10‏]‏ ‏{‏هُوَ الذى يُرِيكُمُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 12‏]‏ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب وإن شئت فتأمل من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الكبير المتعال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 5 9‏]‏‏.‏ ثم التفت من الخطاب إلى الغيبة وحسن موقعهما، أما الأول فما فيه من تخصيص الوعيد المدمج في ‏{‏سَوَاء مّنْكُمْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 10‏]‏ ولهذا ذيل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ‏}‏ إلى ‏{‏مِن وَالٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏ وفيه من التهديد ما لا يخفى على ذي بصيرة، والحث على طلب النجاة وزيادة التقريع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى يُرِيكُمُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 12‏]‏ وفي مجىء ‏{‏سَوَاء مّنْكُم‏}‏ ‏{‏هُوَ الذى يُرِيكُمُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 12‏]‏ بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يَعْلَمُ‏}‏ هكذا من دون حرف النسق لأن الأول مقرر لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الله يَعْلَمُ‏}‏ مع زيادة الإدماج المذكور تحقيقاً للعلم والثاني مقرر لما ضمن من الدلالة على القدرة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلُّ شَىْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 8‏]‏ مع رعاية نمط التعديد على أسلوب ‏{‏الرحمن عَلَّمَ القرءان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 1، 2‏]‏ ما يبهر الألباب ويظهر للمتأمل في وجه الإعجاز التنزيلي العجب العجاب، وأما الثاني فما فيه من الدلالة على أنهم مع وضوح الآيات وتلاوتها عليهم والتنبيه البالغ ترغيباً وترهيباً لم يبالوا بها بالة فكأنه يشكوا جنايتهم إلى من يستحق الخطاب أو كمن يدمدم في نفسه أني أصنع بهم وأفعل كيت وكيت جزاء ما ارتكبوه ليرى ما يريد أن يوقع بهم، وعلى هذا فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُمْ‏}‏ إلى آخره معطوف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 7‏]‏ المعطوف على ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 6‏]‏ والعدول عن الفعلية إلى الاسمية وطرح رعاية التناسب للدلالة على أنهم ما ازدادوا بعد الآيات إلا عناداً ‏{‏وَأَمَّا الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 125‏]‏ وجاز أن يقال‏:‏ إنه معطوف على ‏{‏هُوَ الذى يُرِيكُمُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 12‏]‏ على معنى هو الذي يريكم هذه الآيات الكوامل الدالة على القدرة والرحمة وأنتم تجادلون فيه سبحانه وهذا أقرب مأخذاً والأول أملأ بالفائدة اه ومخايل التحقيق ظاهرة عليه؛ وزعم الطيبي أن الأنسب لتأليف النظم أن يكون هذا تسلية لحبيبه صلى الله عليه وسلم، فإنه تعالى لما نعى على كفار قريش عنادهم في اقتراحهم الآيات كآيات موسى‏.‏ وعيسى عليهما السلام وإنكارهم كون الذي جاء عليه الصلاة والسلام آيات سلاه جل شأنه بما ذكر كأنه قال‏:‏ هون عليك فإنك لست مختصاً بذلك فإنه مع ظهور الآيات البينات ودلائل التوحيد يجادلون في الله تعالى باتخاذ الشركاء وإثبات الأولاد ومع شمول علمه تعالى وكمال قدرته جل جلاله ينكرون الحشر والنشر ومع قهر سلطانه وشديد سطوته يقدمون على المكايدة والعناد فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فليتأمل، ولا يستحسن العطف على ‏{‏يُرْسِلُ الصواعق‏}‏ لعدم الاتساق، وجوز أن تكون الجملة‏.‏

حالاً من مفعول ‏{‏يُصَيبُ‏}‏ أي يصيب بها من يشاء في حال جداله أو من مفعول ‏{‏يَشَاء‏}‏ على ما قيل وهو كما ترى، ولا يعين سبب النزول الحالية كما لا يخفى ‏{‏وَهُوَ‏}‏ سبحانه وتعالى ‏{‏شَدِيدُ المحال‏}‏ أي المماحلة وهي المكايدة من محل بفلان بالتخفيف إذا كاده وعرضه للهلاك، ومنه تمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه فهو مصدر كالقتال، وقيل‏:‏ هو اسم لا مصدر من المحل بمعنى القوة وحمل على ذلك قول الأعشى‏:‏

فرع نبل يهتز في غصن المج *** د عظيم الندى شديد المحال

وقول عبد المطلب‏:‏

لا يغلبن صليبهم *** ومحالهم عدوا محالك

وكأن أصله من المحل بمعنى القحط، وكلا التفسيرين مروي على ابن عباس، وقيل‏:‏ هو مفعل لأفعال من الحول بمعنى القوة، وقال ابن قتيبة‏:‏ هو كذلك من الحيلة المعروفة وميمه زائدة كميم مكان، وغلطه الأزهري بأنه لو كان مفعلاً لكان كمرود ومحور، واعتذر عن ذلك بأنه أعل على غير قياس، وأيد دعوى الزيادة بقراءة الضحاك‏.‏ والأعرج ‏{‏المحال‏}‏ بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال لأن الأصل توافق القراءتين، ويقال للحيلة أيضاً المحالة؛ ومنه المثل المرء يعجز لا المحالة، وقال أبو زيد‏:‏ هو بمعنى النقمة وكأنه أخذه من المحل بمعنى القحط أيضاً، وقال ابن عرفة‏:‏ هو الجدال يقال‏:‏ ما حل عن أمره أي جادل، وقيل‏:‏ هو بمعنى الحقد وروي عن عكرمة وحملوه على التجوز‏.‏

وجوز أن يكون ‏{‏المحال‏}‏ بالفتح بمعنى الفقار وهو عمود الظهر وقوامه، قال في الأساس‏:‏ يقال فرس قوي المحال أي الفقار الواحدة محالة والميم أصلية، ويكون ذلك مثلاً في القوة والقدرة كما جاء في الحديث الصحيح «فساعد الله تعالى أسد وموساه أحد» لأن الشخص إذا اشتد محاله كان منعوتاً بشدة القوة والاضطلاع بما يعجز عنه غيره، ألا ترى إلى قولهم‏:‏ فقرته الفواقر وهو مثل لتوهين القوى، وبهذا الحمل لا يلزم إثبات الجسمية له تعالى، والجملة الاسمية في موضع الحال من الاسم الجليل‏.‏